التعليم ليس مجرد تلقين للمعرفة، بل هو عملية بناء تستهدف العقول والشخصيات معا. وبين جدران الفصول، تتشكل ملامح المستقبل من خلال تلاميذ يختلفون في دوافعهم وسلوكياتهم وتطلعاتهم. هناك من يسعى للعلم بإرادة صادقة، وهناك من يحضر دون وعي بأهميته، وهناك من يرى في المدرسة قيدا يحاول كسره بكل الطرق. وفي خضم هذا التنوع، يجد المعلم نفسه في معركة يومية، لا يواجه فيها التحديات الدراسية فحسب، بل يخوض صراعا مع نظرة المجتمع لمهنته، ومع تلاميذ لم يدركوا بعد أن ما يبذله من جهد، هو استثمار في حياتهم قبل أن يكون واجبًا عليه.
وبصفتي معلمة لطالما تبنت في حياتها المهنية شعار: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا"... ورغم الإكراهات والتحديات، لم أحِد يوما عن قناعتي بأن التعليم رسالة لا مجرد وظيفة.
ومن خلال تجربتي المهنية الطويلة، يمكن القول أن شخصيات التلاميذ تتنوع بحيث يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات في الغالب:
الفئة الأولى: هم أولئك الذين جاؤوا للتعلم بحق، يدركون قيمة المعرفة ويحترمون قوانين المؤسسة، لأنها في مصلحتهم أولًا. تجد فيهم من نشأ في بيئة موجهة وداعمة، ومن يكافح رغم الظروف الصعبة، لكنه ماضٍ بعزم نحو مستقبله. هؤلاء هم الذين يكبرون ليصبحوا أفرادا نافعين، يقدرون جهود معلميهم، ويحتفظون بذكريات جميلة عن المدرسة.
الفئة الثانية: تلاميذ يدرسون فقط لأن ذويهم أخبروهم أن ذلك ضروري لبناء مستقبلهم، لكنهم لم يصلوا بعد إلى مرحلة النضج التي تجعلهم يستوعبون أهمية ما يتعلمونه. يفضلون اللعب على الدروس، ورغم محاولات المدرسة والأسرة، يظل بعضهم غارقا في اللامبالاة. مع مرور الوقت، يدرك البعض منهم قيمة ما فاتهم، فيحاولون تعويضه، بينما يستمر آخرون في التيه والضياع، غير واعين بما يخسرونه.
أما الفئة الثالثة، فالحديث عنها ذو شجون… هؤلاء لا يرغبون في الدراسة أصلا، وغالبا ما يكون السبب مشاكل أسرية أو نفسية جعلتهم في حالة تمرد دائم على القوانين، خصوصا قوانين المدرسة. هدفهم إثارة الفوضى، لا احترام الدرس ولا المعلم. يجد الأستاذ نفسه مضطرا للعب أدوار أخرى غير التعليم: الأب، الأم، المرشد النفسي والاجتماعي… أحيانًا ينجح، وأحيانًا يصطدم بجدار من الرفض والإحباط.
وحين يكبر أبناء هذه الفئة، ينمو معهم الحقد تجاه المدرسة والمعلمين، ليس لانهم أحسوا بالظلم والاظطهاد في مرحلة ما من حياتهم فحسب، بل لأن أسرتهم قد غذّت فيهم شعور الضحية، رافضة الاعتراف بمسؤوليتها. واليوم نجد هؤلاء إما جالسين على كراسي المقاهي، أو خلف شاشات المنصات، لا حديث لهم سوى جلد المعلم والتشكيك في دوره، وكأن كل مشاكلهم في الحياة سببها حصة دراسية لم تعجبهم ذات يوم.
وهكذا، يستمر الجلد… في الإعلام، في الشارع، في مواقع التواصل… ولا يزال المعلم صامدا، يحمل رسالته رغم الإكراهات والتحديات
09/11/2023