عائد إلى غابة اللقلاق "إذا سئمت الحياة فارجع إلى الأرض تنم آمنا من الأوصاب ، تلك أم أحنى عليك من الأم التي خلفتك للأتعاب " هكذا قال لي صديقي وهو يتخلص مما تبقى من سجارته ، حيث استهلك ما يزيد عن أربع سجائر وهو يستمع إلي في إمعان وهدوء حتى خلته مل الإنصات إلي ، لكنه بادرني قائلا : " هل من مزيد "؟ وهو يشعل سجارة جديدة ، أنا يأخي ابن النكسة ، ولدت سنة ألف وتسع مائة وسبعة وستون في يوم أو ليلة من أيامها أو لياليها ، درست هناك ما تيسر على ظهر جدتي التي كانت تقلني أربع مرات في اليوم إلى المدرسة ، وبعدها انتقلت إلى إحدى المراكز القريبة من بسكناي بحوالي ثمان كيلومترات ، كلها أدغال وخنادق ، بل كان هناك واديا غالبا ما حال بيننا وبين المدرسة ، مدرسة كانت بالنسبة لي في البداية مصدر هلع وخوف حيث تكثر النوافذ الزجاجية والمصابيح الكهربائية ، كانت كل يوم تؤرقني بأسئلة منومة عبر فتحات زجاجية شفافة وكأن الرياح تطاردني ، هل سبق أن كنت راعيا للغنم أو المعز؟ هل درست بالكتاب ؟هل لديكم أرضا زراعية ؟ هل أمك تعرف القراءة والكتابة . إلى غير ذلك من الأسئلة التي غلبا ما جعلتني أتصبب عرقا ، لكن الأمر الذي لم تطرح علي فيه أسئلة هو : كيف أعيش ، كيف أصل إلى المدرسة ، ما هي طموحاتي في هذه الحياة ...الخ ، وما كان علي إلا أن حاولت استضغاء كل هذه الأسئلة وقد كتمت الرماح في كبدي ، حيث تقاطرت علي مجموعة من الأفكار تتجاذبني بين المجيء سروا إلى المدرسة والخوف من راكبي الطريق ليلا وهم في اتجاه معبر وادي ليلى، واد كلما عبرته تمنيت لو خلعت رجليك أو أوقفت قلبك حتى لا يسمعـــك "هارون " ، ما أجملها تلك اللحظات التي يختزل فيها الإنسان أضواء يتلمس من خلالها خيوطا من زمن حمل معه كل شيء وراح فبقي الشاهد على أودية سالت هناك وجرفت معها جذور منازل هوت عليها شوامخ الأشجار ، يا الهي إنها قادمة تتحسس باب غرفتي التي اختلطت فيها منومات الجدة مع صياح صغار المعز ، أتمنى ألا توقظني هذا الصباح حتى أتمكن من تلمس آخر خيط من قصة عاصفة تظهر فيها كل مرة شخصية مهمة ثم تختفي ، شخصية هذه المرة عودتنا الاختفاء طويلا والظهور المفاجئ ، فيعم معها الهناء والاستقرار وتمسح فيها الفوانيس وتنظف الأرض بطلاء يعبق رائحة لطين ابيض يختار لنظافة المكان ويليق بالمناسبة ، عفوا والدتي لقد قطعت علي حبلا طويلا كان يجرني عبر حافلة لم تسعني وأصدقائي من نفس الحومة رقمها سبعة وستون ، لماذا هذا الرقم أماه ؟ انه يطاردني في كل مكان ، بل حتى رحيل الوالد هذا الصباح تزامن مع السابعة وست دقائق ، لقد تأخر عن موعد خروجه بست دقائق ، أتمنى له سفرا قاصدا وعودة ميمونة إن شاء الله ، لقد عودنا ألا نراه إلا مودعا أو قادما يحمل أثقالا فوق أثقاله ، لقد كان دائما يحمل شيئا ما ، لكن هذه المرة حمل معه شيئا قبل أن يرحل ، أتراه يبني هناك عالما كعالمنا هذا ؟ أم يريد إفراغ زاوية تنام فيها أحلامه ؟قد يكون ذلك صحيحا ، وبقيت الزاوية كذلك تفوح منها روائح زكية قادمة من جهة الجنوب ، جنوب المنطقة يعني ،لقد افلح الوالد في توقعاته هذه المرة ، خرج يومه عبر الجهة التي عاد منها ، وبما أنه كان على علم بأن الطريق لن يكون هذه المرة آمنا اصطحبني معه إلى اقرب نقطة ثم بعدها رحل إلى عالم كان يتلمس دروبه عبر تلاوة ما تيسر من القران الكريم ، وهو يردد قوله تعالى " والعصر إن الإنسان لفي خسر "... ما هذا ؟ نجم سقط فوق رأس أمي ؟ بقيت الزاوية تكبر شيئا فشيئا فتبهت معها الأضواء وتكبر الأحلام ، لا تملك المسكينة سوى الدعاء ، هذه المرة خرج الرجل مثقلا ، مودعا على غير عادته ، فبقيت المسكينة تتلمس ماضيها العابق عبر طوابير من سراب النمل قادمة من الجهة الشرقية ، تلك حمامة مكلومة ، ذاك صغير اللقلاق يريد الطيران لأول مرة ، هيا اقفز ....فوقع بأيدي عابثة قد لا ترجعه إلى عشه ، لكن النملة كانت يقظة فجعلته يحلق هذه المرة بعيدا ليعود باكرا حزينا هو الآخر لما ألحقه سقوط النجم من أضرار بعش والدته ، مسكينة أنثى اللقلاق شاءت أقدارها أن تصبح حاميا لهذا العش ، ولم لا وهي منطوية على تاريخ بأكمله ؟ تاريخ بدأ بسقوط نجم والدتها وانتهى بسقوط نجمها ، فلا من يحم الديار ولا من يصون الأرض ، تماسيح تبكي في السفح وذئاب تعوي في المرتفع ، تلك سنة الله في خلقه ، هنا لملمت الحمامة الحمامة جراحها ونوت ركوب طريق وسط ظلام دامس نحو عالم غير مكتمل يعمره أقوام أضاعوا كل شيء ، اختلط فيه كل شيء القاضي فيه جائرا والمشتكي ظالما ، والشاهد غائبا ، بل حتى السماء لم تعد تسمح للأرض ما جعل الفجر يتأخر هذه الليلة ، أصوات من هنا وهناك ، رياح هوجاء ، اللهم اجعله سفرا قاصدا وطريقا آمنا ....كلها عبارات ترددها المسكينة كلما شعرت باللقلاق الصغير يجرها من أحد أطرافها وكأنه يريد أن يقود القافلة نحو فجر قريب وصبح مشرق ، يإلهي سقط كوكب هذه المرة ، شفق على غير حمرته ، نجوم عالقة دون بدر ، تقدم الصغير وتخلفت الحمامة المكلومة ، صغار النمل تعمل في خفاء ، انطفأت أضواء الزاوية ، تبددت الأحلام ، مرة أخرى حمرة على غير المألوف ، تقدم الصغير في صمت كاشفا عن ثنايا أيام خلت كسراب النمل ، أيام رسم فيها كل شيء وهو يحمل خبزا تأكل الطير منه ، أياما كلما ذكرها زادت حاجته من الماء وكأن شيئا ما يثقل كاهله ،أصابت المسكينة عندما نوت الرحيل إلى عوالم الأمجاد الخالدة وهي تنظر إلى الزاوية نظرة العاشق الولهان لمعشوقته الغير عابئة ، كانت وصاياها صامتة مثل صمت نجمها ، والصمت من شيم الحكماء ، هنا وقف الصغير وهو يحمل تاريخه نحو أزمنة دروبها أشد ظلاما ، وشوارعها ملتوية ، كانت الحافلة ممتلئة هذه المرة ، لكن تمت صمت خيم عليها ، فالكل مشغول بنفسه ، أوشكت الحافلة على التوقف ، هناك من هم بالوقوف ، وآخر يهمس لصديقه مودعا أو مستفسرا عن رقم التوقف ، رقم استفاق على وقعه الصغير وهو يهم بالوقوف ، فكانت الفاجعة هذه المرة ، فلا الزاوية ولا الشوارع الملتوية ولا الدروب المظلمة تثنيه على التوجه نحو الجهة الشرقية متلمسا أول خيوط توصله إلى منابع ماء طالما ارتوى منه وتمرغ فيه دون أن يراه احد ، لماذا هذه المرة احتشد الناس ضحى وهو في طريقه إليه ؟ أتراه هو الآخر بدل لونه وطعمه كما فعله أقوام لقالق الغابة قرب وادي النمل ؟ لا وألف لا ،إنه وقوف على غير المألوف ، اللهم إذا كانت صغار النمل قد ثارت على صغير اللقلاق حين أسقطت برجه ، وأخذت بوصلته وزجت به نحو طريق جارف ، نحو عالم أشد انحدارا من أيام سقوطه بالأيدي العابثة " رب اجعل أفئدة من الناس تهوي إليه" دعاء وصلوات وفجر قريب ، شيئا ما هذه المرة يلوح في الأفق كيوم ولادة صغير اللقالق ...كانت السماء صافية جدا اختلطت فيها حمرة من الجهة الشرقية وبياض كبياض قطع الثلج من الجهة الغربية ، وكأن البدر يريد هو الآخر أن ينافس الشمس لإضاءة المكان ، جاءت سيارة من الجهة الشرقية تقدم الولاء لصغير اللقلاق مقدمة له تاريخ الأمجاد وما افتقده الأبناء ولم يصل إلى الأحفاد ، ثابوت من الخشـب الرفيع ، قطع من قماش تفوح منه روائح مقاومة شديدة لزمن غادر اغتصبت فيه الحقوق وانتهكت الحرمات ، يتذكر الصغير تلك الروايات الحماسية التي كانت دائما بمثابة منومات لم يكن يلتقط منها سوى أن الجد كان قاسيا مع" النصراني " وغالبا ما كان يطارده بالسلاح الناري ، بالفعل هذه قراطيس الورق ملفوفة بقماش تفوح منه رائحة " البارود" . الم اقل لكم بأن هذا الصباح على غير عادته ؟ حمرة لم تغادر المكان ، بياض تجلى فيه ثوب جبريل وهو في ضيافة الأرض ، ثابوت اخضر اختلطت فيه رائحة الخشب بفيح حرب كانت هناك وفاء للأرض كمــا للسماء ، طوابير النمل تعمل في انتظام ملتقطة حبات القمح من أعلى مكان نحو غابة اللقلاق ، غابة شاءت الأقدار أن تنطوي هي الأخرى على تاريخ بأكمله وكأنها تعمل للضفة الأخرى ، فلا العشب ولا الماء هذه المرة يريد الانصياع ورائحة القماش زادت من حنق الصغير وتمنى لو كان الفاروق بيننا اليوم ، لحكم وعدل ثم نام ، لكن للأسف حتى عصا موسى لم تكن إلا واحدة والأمر للواحد القهار ، فإذا شاء انفلق النهر نهران والماء قسمة بينا ، يا حسرة على قوم أضاعوا كل شيء ، غابت شمسهم عند طلوعها وانكدرت نجومهم والبدر مكتمل ، قوم بكت عليهم السماء وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، تقام ولائمهم والجوع ضيفهم ، تضاء فوانيسهم ودروبهم مظلمة ، كم بنيت من مدن برمال زلزلت أقدامهم ، وكم شيدت من من طرقات عبرهم وبقوا بين الحفر وكأنهم أنقاض بناء هوى سقفه وانشقت جدرانه ..، هنا كانت ترقد الحمامة أيام كان كل شيء بمقدار ، كانت الحقول تزين الطرقات ، تتخللها مسالكا موصلة إلى أضرحة أولياء الله الصالحين ، فهذا سيدي عمر بن عين أمه ،وهناك يرقد سيدي الحارتي وغير بعيد منهما يوجد سيدي علال العواج ، أولياء حملوا أوطانهم فوق حبات من الفحم الحجري عبر طرق رسمها "ابن الإفرنجية " في اتجاه الجبل وكأن الناس نوام ، لكن " المقدم " كان دائما بالمرصاد ، فبينما كان الصغير يركب الطريق كل صباح إلى المدرسة ، كانت الأدوار كلها على ما يرام ، كانت "حادة حمو" تحضر كل يوم منوما جديدا ، فكل يوم إشارة ،أنت تشبه المقدم ، هكذا كان يفعل جدك، كان لا يتوانى في إشهار سيفه في وجه النصراني كلما أراد أن يلمس قطعة القماش ، لكن مع اكتمال البدر قامت طوابير من النمل الأحمر تنهش ما بقي من جسد حمامة كانت ترقد هناك ، بقيت رسائلها برفوف وطن يأوي شعب ، شعب تعلق بالأهداب وخدم الأعتاب ، فلا الحاكم هذه المرة جائرا ، ولا المشتكي ظالما ، بل حتى الشاهد يقسم انه كان هنا منذ مدة ، ولن يتوانى في رفع يده اليمنى مكبرا أن السماء كانت دائما زرقاء والأرض معطاء والأيادي العابثة هي من بني جلدتنا والفاروق بيننا ، والله انه بيننا وهو يرانا كما نراه ، محمود خلقه بأصابع اليد وواحــــــــد ، اسمه يملأ المكان وخطواته تزرع الأمان ، فكم قطف من رؤوس كانت تقسم أنها لن تبيد أبدا ، وكم من عابر سبيل بات في حضرته حتى بلغ مأمنه ، وكم صرخت الحمامة المكلومة في وادي النمل دون أن يسمعها احد ، وها هي الآن تنادي على حاميها بأعلى صوتها ،واملكاه .ما جعل ساكنة الغابة يتطايرون نحو "الساحل" أي ساحل هذا وهو الآن يقوم على جماجم الأجداد ودماء الأحفاد ، فسبحان من أبكى وأضحك ، لكن "دوام الحال " فرضية باتت من المحال ، ولربما كان الفاروق في طريقه إلينا ، انه قادم لا محالة ، ستخبره يمينك ما فعلته بنا شمالك ، وسترى حبات الرمال وهي تثنيك على المشي ، فلا الغابة تأويك ولا الوادي ينجيك ، وصغير اللقلاق يرقبك من مكان بعيد ، وطوابير النمل الأسود بمساكنها ترقب فجرنا ، انه قريب هذه المرة والطريق آمنا ، والحافلة الآن تسعني لأقص بها ما قام به الأبناء في حق الأمجاد ، وكم أيقظتني بها أمي وأنا امشي في صفحات مذكراتي ، وها أنا الآن أوقظها وهي هناك ، كانت وصاياها في صمت وكان من يعصاها جهارا ، لهذا أيقظتها بعدما ضاقت علي الأرض بما رحبت ، وهي التي أشهدت الشجر والحجر على رضاها ، أماه.... صغار النمل عبثت بالمسكن واستباحت التاريخ وباعت الأمجاد بسوق " العجب " فقام الأحفاد ، ومنهم من كبر فوق ركبتيك واقسم أن يدعو لك وأنت هناك ، أخبرك أماه أن الحافلة التي كانت تطارني بالأمس هي الآن نتقلني وأنا اقلب رفوفك ، الكل على ما يرام ،وصغير اللقلاق بنى عشه بعيدا وحلق عاليا لعله يسمعك ، لقد كنت دائما تتحدثين في صمت ، بل صمتك قطع علي السمع عدة مرات وكأنك كنت تصرخين في عوالمك حتى جاءك اليقين ،أماه ، لقد شمر صغير اللقلاق هذه المرة على سواعد الجد ونوى ركوب الحافلة إلى الوجهة التي بكت عليها السماء وجادت عليها الأرض ، إلى حيث رقد الأجداد وبنيت الأمجاد ، إلى حيث وجد "قرواش" ممدودا على ظهره وسط زليج ورخام حيث رممت العظام وعجز اللسان عن الكلام ،عظام تروي هي الأخرى في صمت عن أمجاد كانت هناك ، حيث كانت تقام الأسواق وتضرب الخيام ، حينها وقف " المعلم " حيران أيمسكها على هون أم يدسها في التراب ؟ وكان صغير اللقلاق يرى كل شيئ فتذكر المنومات وعقد العزم على أن يواصل البحث ... عين قرواش المنبع والساقية إلى المصب ، استدل بها أهل العدل وحكماء ازمنتهم ، فرسموا بها الحدود ، وثبتوا بها الحقوق ، بقي خرير مياهها بالرفوف قبل مجيء ابن الإفرنجية وبعده إلى زمن الفاروق يشد الوثاق وينير الطريق لفقهاء القوم ممن شهروا الأقلام وتصدوا للأيدي العابثة وسط قراطيس ملفوفة بقماش شهد على زمن بأهله ومكان لم تطأه الأقدام ، لكن الفاروق هذه المرة سيجعل الساقية تعانق وادي النمل بغابة اللقلاق ليطهرها من عبث الزمن وما لحق بالعظام يوم كان المكان شاهدا على أهله ، حيث بقيت آثار الحدادة والحياكة شاهدة على تاريخ بأكمله ، تاريخ تقصه علك قطع الزليج والرخام في صمت رهيب جعل صغير اللقلاق حبيس المكان والمعلم آسفا حيران والحمامة ملقاة على صدرها تعانق التراب مستسلمة للنمل الأحمر الذي لم يفارق المكان وفاء لابن الإفرنجية ، بل حتى الحافلة تأخرت هذه المرة ، وحبات الفحم الحجري لم تعد قابلة للاشتعال ، استنفذ المعلم زاده ، حملت العظام إلى هناك ، إلى حيث ستقسم أنها كانت هنا ، وان الفاروق سيزور المكان ، وهو يرقبنا من مكان بعيد ، ويرى الأيادي العابثة كما نراها نحن ويعرفها كما نعرفها وموعدنا الصبح ، أليس الصبح بقريب ؟ صبح بدأت نفحاته تسري كسريان الدم في عروق الحمامة يوم عاد لها صغيرها وهي بغابة اللقلاق ، الم أقل لكم بأن الفاروق يرقبا ؟ توقفت الحافلة واحتشد الناس على غير عادتهم وكأنهم يناشدون العظام لنقل الحقيقة عندما تكون في ضيافة الفاروق ليخلص الغابة من براثن الزمن الغادر وإرجاع مياه العين إلى مجاريها لتعود الحدود كما كانت وتمسح الرفوف وترتب الأوراق كما وضعها المقدم وصانتها حادة (يتبع) .
تأليف حميد الحضري سليل الغابة والجبل والشاهد الحاضر .