هاطلت في الآونة الأخيرة في الصحافة المكتوبة والرقمية تقارير كثيرة ملغومة في توقيتها وتحليلاتها، لغتها الهجوم والغمز والقدح بعد فيديو الصخيرات، تريد أن تصل إلى نتيجة واحدة مفادها أن الوزير الوفا لا يصلح أن يكون وزيرا للتربية الوطنية ولا مشروع لديه لإصلاح حال المدرسة المغربية، وأنه جاء في الوقت الخطأ ليبعثر الأوراق من خلال قرارات مزاجية غير مدروسة ويوقف إصلاحات ضخمة كانت لطيفة العبيدة إلى آخر يوم لها في الوزارة تبشر بإنجازاتها.
لابد من الإقرار أولا أن المغرب كانت له فرصة تاريخية حقيقية لإصلاح حال المدرسة المغربية والنهوض بها، مع تخصيص ميزانية ضخمة للقطاع وبرنامج متكامل وضع الأصبع على جل مكامن الخطر، ونيات حسنة عديدة للإصلاح. لكن ماذا تنتظر من امرأة إذا أعطيتها صندوق مال؟ “طبعا ستوزعه بـرفق ووفاء إلى آخر مليم، وترجع للديار خاوية الوفاض”، هي جملة قالها أحد الملوك الإنجليز وهو يرى زوجة ابنه التي أرسلها لمفاوضة عدوه بالمال تفرقه على المحتاجين من أهل القرى التي مرت بها. ولعل هذا عين ما وقع للوزيرة البريئة التي وجدت نفسها أمام ميزانية تسيل اللعاب. وعوض اعتماد الإصلاح المتدرج والصارم فتحت بحسن نية ورغبة كبيرة للعمل دعامات كثيرة للإصلاح بمداخل ومخارج متعددة، وانبرى أصحاب الكتف يهندسون مشاريع براقة ولجانا لكل منها وسيولا من التنظيرات التي تَعجب كيف وفق أصحابها لصياغة ما كتبوه وجرأتهم على طرحها. وما إن انتهت السنة الثالثة للبرنامج المقبور حتى كانت التركة الشهية قد وزعت على طول المغرب وعرضه ما بين لجان متنوعة وزارية وأكاديمية ونيابية، وتكوينات شكلية متعددة لمفتشين سئموا عطالة الزمن والجيب، ومطبوعات متزاحمة جل صفحاتها محشو بلهفة الأغبياء، ومراكز استعجالية للتجديد التربوي تدرب فيها دكاترة مبتدئون في تأليف وضعيات إدماجية وأخرى للبحث التربوي (آش خصك آلعريان…)، وبرامج ضخمة كجيني وغيرها بميزانيات كبيرة ونتائج متواضعة، لتكون الحصيلة في النهاية لوبيات كثيرة يصعب تفكيكها. وحدهم الأساتذة والتلاميذ في الفصول الدراسية لم يصلهم إلا الفتات وشيئا من الملايين السائبة لجمعيات مدارس النجاح علمت المديرين كتابة الفواتير إلا من رحم ربي. مع أن العكس هو الذي كان يجب أن يحصل، أي أن تذهب كل تلك الأموال إلى الفصول الدراسية لا غير، كما هو حاصل في الدول المتقدمة تعليميا كأندونيسيا وماليزيا والنرويج وفنلندا…، والمتدخلون الآخرون لهم رواتبهم الشهرية التي لا تحتاج إلى تسمين. وهذا الصمت المريب لمن كانوا بالأمس يغردون في كل مناسبة وحين بليغ أيضا. إنها ثلاثة آلاف مليار أخذت قرضا ذا فائدة. ولو فتح الوفا فمه محققا ومنقبا لجفت حلوق كثيرة قبل أن يرتد إليه لسانه.
الوزير الوفا الذي حضي بثقة صاحب الجلالة وخاض تجربة دبلوماسية في ثلاث دول صاعدة بثبات نحو القمة، وهي إيران والهند والبرازيل لا بد وأنه ترسخت لديه غيرة وطنية كبيرة لبلده، وأصبح رجل دولة بامتياز وتخلص من أغلال المصلحة الحزبية الضيقة، وهلوسات السيد توفيق بوعشرين حول مؤامرته المزعومة لخطف رئاسة حزب الاستقلال بادعاء أنه مرشح سيدنا، لا يمكن لمبتدئ في السياسة أن يرتكبها، فكيف بالوفا الذي لم يخضع حتى للبصري أيام كان سياسيو المغرب في جبة واحدة. إنها القرارات الشجاعة التي اتخذها هي من جعل الكثيرين يترصدون هفوات بسيطة تحدث لأغلب السياسيين المتميزين والنشطين ليخلصوا أن زمن الوزارة انتهى. ألم يضبط يوما نيكسون وزيره في الخارجية كيسنجر وهو ينعته بالأبله وصفات قدحية أخرى بعدما نسي الميكرفون مفتوحا، ألم يصف أوباما نفسه مع ضيفه ساركوزي رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالكذاب والمخادع في جلسة ظناها غير مباشرة على الهواء. فدعوا الرجل الذي لا يطيق الماكياج ولو على وجه إيرانية يعمل، فتصويباته الموفقة تعكس إلى أي حد وفق من اختاروه لهذه المهمة الصعبة في إخراج التعليم من عنق الزجاجة ودفعه نحو الاستقرار والثبات.
أولى القرارات الجريئة التي اتخذت كان توقيف العمل ببيداغوجيا الإدماج وغلق صنبور البرنامج الإستعجالي المتدفق وإرجاع هيبة المدرسة المغربية من خلال إجراءات ذكية في التعامل مع الشريحة الكبرى من أطر الوزارة، حيث بدا السيد الوزير أمينا في التزام مواعيد الحركة الانتقالية والامتحانات المهنية مانحا الأمان والاستقرار لرجل التعليم. كما استوعب بسرعة أساليب النقابات الجديدة منها أو القديمة في خلق الزوابع الهامشية. أما رفضه التوظيف المباشر في قطاع حساس كالتعليم، فكان موفقا فيه إلى أبعد الحدود، فالأستاذ هو مرب بالأساس ومسؤول عن صناعة أجيال كاملة قبل أن يكون موظفا، ولا يمكن لعاقل أن يسلم أبناءه إلى معطوبين نفسيا. كما أرجع هيبة البكالوريا المغربية من خلال محاربته الغش بشجاعة نادرة ناهجا سياسة البلاغات اليومية والمعالجة الآنية لكل البؤر التي شهدت حالات تزوير وتسريب الأسئلة عبر الفايسبوك وغيره.
بداية العداء ابتدأ من هنا، فلعل الجميع لاحظ الحنق الذي سببته جولات الوزير المكوكية بين الأكاديميات لكثير من خلقه. ربما لأنهم تعودوا من صاحب الجلباب الشهير أن يبارك فقط ولا يسأل، لكن الزمن تغير. ولا بد وأن السيد الوفا في آخر زياراته طرح سؤالا جديا وبطريقته الفكاهية عن جدوى إنشاء الأكاديميات والنيابات بهذا العدد المهول، وما هي الإضافات التي يمكن أن تمد بها القطاع التعليمي مادام أنه لم ير لها مثيلا في كل الدول التي مر بها سفيرا. فالجهوية مستحبة وضرورية أحيانا، لكن في قطاع جوهري كالتعليم تعتبر مبددة للجهد والمال والوقت فقط. وفي البرازيل التي كانت إلى عهد قريب دولة نامية، لا أثر لمتدخلين عديدين وهيئات كثيرة تؤثث المشهد التعليمي عندنا، بل يعتبر مدير المؤسسة مسؤولا عن مدرسته وله الحرية الكاملة المقرونة بالمحاسبة الشديدة في إدارة مدرسته. وهذه الآلاف من الأطر التعليمية التي تسابق الزمن اليوم لتغيير الإطار هروبا من الفصول الدراسية تحت مسميات ملحق إداري واقتصادي وتربوي و… تطرح أكثر من تساؤل عن طاقات تعليمية تهدر وموارد بشرية تجمد مع أن مكانها الحقيقي هو الأقسام. ألا يمكن لموقع الوزارة وكلمة سر لكل موظف أن تغني عن هذا الجيش الكبير من الموظفين المستمرئين في الأكاديميات والنيابات خصوصا وأننا دخلنا منذ مدة ما سمي بالمغرب الرقمي؟
الصدمة الكبرى حدثت عندما أصر الوزير على منع موظفي التعليم العمومي من سحق جهدهم في تعليم خصوصي له كل المقدرة لإنتاج أطره وتسوية وضعيتها بما يضمن حقوقها وكرامتها، لكن من تعود اللبن صعب فطامه، ولا بأس من بعض ضجيجه وطواحينه، ففي النهاية سيعلم أرباب التعليم الخصوصي أنه لا يصح إلا الصحيح بعد أن تخيب الهواتف، لتبدأ عملية توظيف الآلاف من الشباب العاطل الذي ينتظر فرصته للإبداع، أليس حريا ممن خبر جني ثروة المدارس الخصوصية سنوات طوال أن يتحمل مسؤولياته في امتصاص البطالة عوض مراكمة الأرباح حينما عز الذهب؟
إن بضع قرارات مؤلمة اليوم ضرورة مستعجلة لإنقاذ تعليمنا من الإفلاس حتى يتمكن المغرب من رفع شيء من أسهمه عاليا في دنيا التعليم عالميا بعدما هوى نحو جيبوتي، ولا بد من زيادة صبيبها من تفعيل المحاسبة وتخفيف المتدخلين في العملية التعليمية والتخلص من التعريب وتوجيه الجهد الأكبر لتحسين جودة الخدمات بالأقسام بأركانها البشرية والتقنية. فالعبرة أولا وأخيرا بمخرجات الفصول الدراسية الحقيقية أما غيرها فغثاء كغثاء السيل…