ماهي الأسباب الحقيقية التي ساهمت في إفشال محاولات الإصلاح ،التي طالت المنظومة التربوية،وتحديدا المحاولات الجارية لتحديثها؟وهل بالإمكان رصد مكامن الفشل و الضعف التي ساهمت في رفض هذه المحاولات ؟وهل ساهم التكنوقراط في اعتراض العديد من محاولات تجديد دماء هذه المنظومة ؟
تقديم:
من خلال تتبع مسار التطورات،التي تعرضت لها منظومة التربية و التكوين،على امتداد مساحة زمنية طويلة جدا،يبدو للملاحظ المحايد،تضمن تلك المنظومة بوادر الفشل و الإخفاق ،فلا مندوحة إذن من بسط الحقائق كما هي،و بالتالي كشف النقاب عن الأسباب الحقيقية ،التي حالت دون عملية التحديث،و بالتالي فتح أفاق استشراف الرؤية المستقبلية أمامها،فلا وجود لمنظومة تربوية منسجمة مع منتظراتها ، و في غياب هذه الرؤية،التي بواسطتها ستتحدد معالم ومؤشرات تطورها الطبيعي. تأسيسا على ما سبق،يمكن إيعاز بوادر هذا الفشل للعديد من العوامل المعاكسة،التي عرضت التجربة ككل للفشل المقصود،و المخطط له،ساهمت فيه أطرافا عديدة،مادية و معنوية،في الظل أو بشكل علني،،بالنيابة أو بالتحكم المطلق في دواليب المنظومة ،مما أفقدها الدينامية و النجاعة و الفاعلية.
عود على بدء:
- لماذا فشلت تجربة التدريس بواسطة الكفايات ،ومن قبلها نظيرتها الخاصة بالأهداف ؟وهل أسندت التجربتان لأسس نظرية ومعرفية و إيديولوجية كفيلة بدعم و تقوية منطلقاتها المنهجية ؟ وفي ظل أي سياق ثم استنبات التجربة في مظهريها(الأهداف و الكفايات) ، و ماهي الشروط الموضوعية و الذاتية التي ثم تغييبها أثناء تطبيق البيداغوجيتين معا ؟
هذه التساؤلات و غيرها ،كان حريا بنا ،تقديم إجابات شافية لها،لولا خضوع التجربتان معا،للكثير من المنزلقات المنهجية و المعرفية ،التي قد يسميها البعض انتقادات، أوسمتها العشوائية و الاختزالية و الارتجالية،فمن خلال استعراض مسار التدريس الهادف ،ومن بعده التدريس بواسطة الكفايات،تتبدى لنا العديد من الإعتلالات ،التي رهنت و سترهن مصير منظومة تربوية بكاملها للمجهول الغامض،يستدل عليه حضور ما يدعى بالمخطط الاستعجالي،و عليه يصبح من المشروع طرح التساؤلات التالية:
- ما هي الشروط الحقيقية ،التي ثم تغييبها أثناء التفكير في تبني المنظومتين معا،مما عرض التجربة ككل للفشل المنهجي؟ وهل يمكن اعتبار المخطط الاستعجالي بمثابة شهادة على موت، أو تحديدا ،إخفاق الميثاق الوطني للتربية و التكوين ؟
إن الحكم على تجربة تربوية بالفشل أو بالنجاح ،رهين بما حققته من تراكمات على الأمد المتوسط،وما ستحققه على مستوى الأمد البعيد،فبحكم انتماء التجربة لحقل الإنسانيات ،يصبح المعيار القيمي(نجاح /فشل) غير ذا فاعلية في غياب تأطير حقيقي للسياق الذي اندرجت فيه،و بالتالي المقارنة بين هذا السياق وما ارتبط و يرتبط به من وعي نظري أطر و يؤطر التجربة التي صاحبته ؟
تقترن تجربة التدريس بالأهداف بسياق سياسي، يعود بنا تحديدا لمنتصف الثمانينيات ،هاته الفترة التي شهدت تطبيق سياسة التقويم الهيكلي التي تبناها المغرب ،ومن الطبيعي أن يؤثر هذا التوجه على مجمل المنظومة التربوية ككل ،(سياسيا اقتصاديا و اجتماعيا) ،لأن تقاطع السياسي بالاقتصادي أو بالاجتماعي أو بهما معا ، له تأثيراته على طبيعة المنظومة التربوية ،بل ساهم في تحديد معالمها المستقبلية ، و بالتالي تحديد مسار تحركها ،ففي ظل هذه الملابسات و التحولات السياسية و المجتمعية ، ظهر للوجود ما سيصطلح عليه بالتدريس الهادف أو الكفائي لاحقا.بالنسبة للتدريس بالأهداف استند أساسا على المنهج السلوكي( البيهافيوري)، ما أجبره على تطبيق مفهوم الإجرائية و الأجرأة بطريقة تعسفية ، مما آثر على منطلق و مسار التجربة ككل ،نفس المصير الغامض سيعرفه التدريس بواسطة الكفايات ،لأن كلا التجربتين ثم اقتلاعهما من السياق الحقيقي الذي استنبتا فيه معا ، مما عرض التجربة ككل للخلل الظاهر و المستبطن ،هذا الطرح ستؤكده التجارب أو تحديدا مخرجات البيداغوجيتين معا ، من خلال العديد من التصريحات ،التي حاولت ملامسة الجرح الغائر ضمن المنظومة التربوية ،الذي يفيد تعرضها للفشل ،مما استوجب استبدالها بالتدريس بواسطة الكفايات في نسخته الأخيرة ( الإدماج) ،التي تعرضت بدورها للفشل ، مما اقتضى التفكير في الإسراع بتبني مخطط استعجالي جديد ، الذي لم يحمل بدوره معالم مستجداته ،عبر رصد مكامن الوهن و التعثر الخاصة بالتجارب التي سبقته.
يستفاد مما سبق طرحه ،وجود عوامل معاكسة (حسب مفهوم كريماص) حالت دون استكمال الإصلاحات الخاصة بالمنظومة التربوية لمسار تطورها الطبيعي.ولخلق إمكانية إنضاج التجربة لا بد من الوقوف على مكامن التعثر ،كي تتمكن من تجاوز بوادر إخفاقها ،و بالتالي تعريض متضمناتها للتقويم الحقيقي(عدم الكشف عن نتائج البحث الوطني الخاص بالروائز الذي أجري خلال سنة (2000) ،فهل بالإمكان الوقوف على مكامن الضعف ،التي طالت المنظومة التربوية المغربية ؟
بصيغة أخرى :ما هي الشروط المنتظر توفرها لنجاح منظومة تربوية معينة ؟
إن المتتبع للشأن التربوي المغربي يمكن أن يخرج بالملاحظات التالية:
1- إن نجاح أو فشل تجربة أو منظومة تربوية ما ،رهين بتوفر الشروط الملائمة لأنجازها وتحققها ،و التي يفترض ان تتم وفق التصور الاستراتيجي التالي :
2- إخضاع المنظومة للتجريب الكافي ،وفي بيئات مختلفة ،قبل الإقدام على تطبيقها و بشكل موسع و معمم على كافة المناطق المغربية.
3- إشراك كل الفاعلين التربويين و الاجتماعيين في اتخاذ القرارات و المواقف الملائمة،أثناء بناء معالم المنظومة ،لأن تغييب كل هؤلاء يؤثر سلبا على تطور مسارها المستقبلي،بل يدفع أحيانا في اتجاه رفض تمثلها.
4- تشجيع تعدد التأليف الذي طال الكتاب المدرسي ،لم تصاحبه عملية التقويم المناسبة ، للوقوف على مكامن التعثر التي طالت عملية التأليف ،مما استبعد عامل الإبداعية و التجديد عن مضامين هذا الكتاب ،و بالتالي أصبح من الممكن الحديث عن كتاب مدرسي واحد في نسخ متعددة، في غياب تنويع المضامين الحقيقية ،التي يحتاجها هذا الكتاب ،للتكيف و الملائمة مع مختلف البيئات التي سيطبق فيها ، مما خلق أو آثر سلبا على تمثل المتعلم أو التلميذ أو الطالب ، للمضامين المقدمة له ،فأغلبها لم يتجاوز الصور النمطية ، التي كانت سائدة فيه أو في الكتب التي سبقته ، و التي لم تتخلص من الرؤية المسبقة لتوزيع أدوار العمل( بورديو و باسيرون) ووظائفه،في التعامل مع المجتمع المغربي من منظور سطاتيكي بدل الاقتناع بتعرض هذا المجتمع لتحولات كبيرة ،طالت البنى الذهنية لتفكير مواطنيه.
5- نجاح منظومة تربوية معينة رهين بوجود الفضاء التربوي الملائم لها ، وتشبعه بخطاب تواصلي ديناميكي يوطد العلاقة ويترجمها ، بين المضامين الكبرى للميثاق الوطني التربية و التكوين،واستجابة هذه المضامين و تماهيها مع مشترطات الفضاءات التربوية المغربية ،التي تمزج بين البداوة و التحضر، بين مؤسسات دخلت تكنولوجيا الإعلام و التواصل من بابه الواسع ، عبر توظيف السبورة التفاعلية في مختلف حجراتها ، و حجرات آيلة للسقوط على مرتاديها.فالإخلال بعنصر واحد فقط ضمن النسق التربوي و التعليمي يخل بترابط مكوناته الأخرى.
6- إن التدريس وفق منهجية الكفايات أو الإدماج ، قد أعلنت فشلها المسبق ، لأنها لم تتمكن من تحقيق تنسيق بين المضامين الكبرى التي هللت لها ،والخطابات التربوية المتعددة التي شيدتها ،و الفضاء التربوي التقليدي ذي البنى التحتية الهزيلة و الغير المطابقة تماما لطموح متضمنات هذا الميثاق، و للشعارات الكبرى التي أسس لها ،فالنتائج المحدودة التي حققها على علاتها ،كانت في مجملها جزئية ،إن لم نقل موضعية و محلية اقتصرت على الحواضر الكبرى ،وهمشت المغرب المتعدد (حسب تعبير المرحوم عبد الكبير الخطيبي) ،ناهيك عن إغراقها في الشكليات بدل انكبابها على الجوهريات ، مما زاد من اتساع البون بين مختلف أطوار التعليم المغربي(ابتدائي/إعدادي /ثانوي/جامعي...)ومما يستدل به على إغراقها في الجزئيات ،الفشل في تحقيق التنسيق بين كل مسالك و أطوار التعليم ،وتعثر التدريس بواسطة المجزوءات ،الذي اكتفى بالكم على حساب المحتوى ،مما أوقعه في تناقضات عديدة ،لعل أبسطها السرعة في تنفيذ المقررات ،إن في التعليم الثانوي، أو العالي،على حساب التمثل الكافي لمضامينها ،مما زاد من اتساع التناقض بين المنجز و المحقق و المنتظر تحققه ،وما ثم تحقيقه بالفعل ،فالعنصر البشري من الصعب إخضاعه للبرمجة العصبية اللاواعية التي تفرضها السوق على حساب المردودية. 7- غياب بحوث ميدانية تواكب التجربة ،وتسعى لرصد محددات الضعف فيها ،و بالتالي تقويمها من الداخل ،كي يتم تجاوز مكامن التعثر لاحقا ( ربط المدخلات بالمخرجات).
8- عدم استيعاب و تمثل التدريس بواسطة الكفايات بشكل كاف، يأخذ في اعتباره التأطير الفاعل و الجدي و الحقيقي لكل مساهم في تنفيذ مقتضيات الميثاق الوطني للتربية و التكوين ، وفي مشترطاته ،مما أوقع المساهمين الفعليين في مواقف حرجة تحددت أساسا في حرمانهم من التأطير المناسب و المستجيب لتطورات المنهاج.
خاتمة:
بيداغوجيةالكفايات أو الإدماج ، هي بيداغوجية متطورة جدا،وتحتاج لإمكانيات كبيرة من أجل تحقيق طموحاتها،فلا يمكن أن تعطي النتائج المنتظرة منها في بلد كالمغرب ،حيث غياب الشروط الملائمة لإنجازها و تحققها .وفي ظل استحالة تحقق هذه الشروط ، يصبح كل خطاب تربوي عن الكفايات المنشودة و المستهدفة في منأى عن الإقناع ، بل يبتعد عن تمثل الغايات الحقيقية لكل خطاب تربوي تنويري يسعى لتغيير نمط التفكير التقليدي السائد حاليا ،الذي ليس من السهل تغيير معالمه،مما يستبعد كل حديث عن تحقيق الجودة و المردودية ،التي يتطلبها سوق العمل ،مما يرهن مستقبل أجيال بكاملها لمنتظرات مشاريع تربوية قد تتحقق و قد لا يحالفها الحظ في رؤية النور.