كـم من النـاس يحجمـون عن الكتابـة بل وعن كل أشكـال التعبيـر عن آرائهـم ومواقفهـم تحـت ذرائـع شـتى أهمهـا أنهـم يمارسـون بعـض السلطـة أو طرفـا من المسؤوليـة. وهـم في ذلك إنمـا يتمسكـون، عن حـق أو باطـل، بمـا يسـمى عـامة بواجـب التحفـظ أو السـر المهـني أو ضـرورة التـزام الحيـاد فيمـا يطـرأ من نزاعـات أو خلافـات أو قضـايا أو مواضيـع مختلفـة. وينجـم عن كل هـذا ممارسـة صنـف من الرقابـة الذاتيـة قـد تكـون أسسهـا وهميـة أو واهيـة.
ولعـل هـذه الظاهـرة من أهـم الأمـور وأعمـق الأسبـاب التي تجعـل كثيـرا من الأشخـاص ذوي كفـاءات ومؤهـلات عاليـة في شـتى المجـالات ينكفـون من إبـداء وجهـات نظرهـم وأفكارهـم ومساهماتهـم في النـدوات واللقـاءات ووسائـل الإعـلام والفكـر المتنـوعة، وهـم يفرضـون في ذلك على أنفسهـم ضغـوطا وإكراهـات ليسـت من المقتضيـات القانونيـة ولا القواعـد المهنيـة في شيء.
ولعـل الأجـواء السائـدة داخـل دواليـب الإدارة ونوعيـة العلاقـات داخـل مراكـز القـرار وانعـدام حريـة المبـادرة وهامـش التصـرف والتعبيـر الذي يهيمـن على المساطـر والنظـام في القطاعيـن الخـاص والعـام على السـواء، كـل ذلك من شـأنه أن يثبـط العزائـم ويصـرف النـاس عن حريـة التعبيـر وعن التفكيـر في الكتابـة والخلـق والإبـداع.
ونتيجـة لذلـك، فـإن المجتمـع يخسـر الكثيـر ويبـذر في أثنـاء ذلـك من الإمكانيـات الخلاقـة والطاقـات المنتجـة مـا هـو في أمـس الحاجـة إليـها.
وهكـذا نـرى أن الأطـر، في كـافة درجـات ومراتـب المسؤوليـة، لا تكـاد تبتعـد عن مجـال عملهـا واهتمامهـا ولا تنتـج إلا في إطـار مـا تمليـه عليهـا ضروريـات الشغـل والمهنـة، فتصبـح بذلـك مثـل الآلات الأوتوماتيكيـة التي لا تنجـز إلا مـا هي مبرمجـة للقيـام بـه.
ونحـن نجـد هـذه الظاهـرة حتى في الميـدان السيـاسي حيث تكـون أكثـر استشـراء وتجـذرا. فالمسـؤولون لا يكـادون يهجـرون اللغـة الخشبيـة التي يلـوذون بهـا رغبـة في إخفـاء نواياهـم الحقيقيـة وتغطيـة أفكارهـم وقناعاتهـم العميقـة. فهـم لا يجـرؤون على التعبيـر عن آرائهـم الشخصيـة ولا يبـدون انتقـادا ولا موقفـا مخالفـا لمـا يؤمـن بـه فريقهـم أو حزبهـم أو مركـز السلطـة الذي ينضـوون تحـت لوائـه.
وهكـذا تكـون حصيلـة ذلـك كلـه متجليـة في هـذا الفقـر الكبيـر الذي نعرفـه في ميـدان الكتابـة من طـرف كبـار المسؤوليـن، حكومييـن كـانوا أو ممثليـن للأمـة أو قـادة منظمـات شعبيـة أو اجتماعيـة بل حتى ثقافيـة. والأدهى من ذلـك أنـه حتى الذيـن يتخلـون أو يعزلـون عن السلطـة والمسؤوليـة نراهـم يخـلدون إلى الراحـة ونشـدان رغـد العيـش وبـذخ الحيـاة ولا يفكـرون حتى في كتـابة مذكراتهـم أو ذكرياتهـم.
نحـن إذن في حاجـة إلى ثـورة حقيقيـة في العقليـات وفي مضمـار نظرتنـا إلى الحيـاة الثقافيـة والإبـداع والإنتـاج في المجـالات الفكريـة والسياسيـة والأدبيـة، وغيرهـا من المساهمـات في شـتى المجـالات.