لعلنـا جميعـا في حـاجة إلى تعلـم طـرق الحـوار الهـادئ الجـاد والمنتـج. ذلك أن المدرسـة، بشكلهـا الحـالي ووضعهـا السـيئ والمستـوى الهـزيل لبرامجهـا ولأدائهـا، لا تلقـن مثـل هـذه الأمـور، لأنهـا ليست مـؤهلـة لذلك. كمـا أن حـالة الفقـر الثقـافي والبـؤس الفكـري السائـدة في المجتمـع تزكي هـذه الظاهـرة.
وهكـذا، فنحـن جميعـا نتحـاور حسـب فطرتنـا ومؤهلاتنـا الطبيعيـة وأمزجتنـا ومـا نحسبـه صالحـا في هـذا الشـأن. والنتيجـة مـا نـراه من نقاشـات وحوارات في الفضائيـات العربيـة وكـذا في مختلـف اللقـاءات والمنتديـات والمواقـع الإلكترونيـة، وأغلبهـا يتميـز بالعنـف اللفـظي والتهجمـات والاستفزازات والصـراخ، وكلهـا مظاهـر للتخلـف الذهـني التي لا تجـدي نفـعا، بل بالعكـس تـورث الغـل والمقـت والضغينـة بين النـاس. وكـأننـا مـا زلنـا مراهقيـن، بالمفهـوم السلبي للكلمـة، في مجـال العلاقـات الإنسانيـة والتواصـل المثمـر البنـاء.
وقـد جـاء الإسـلام بأروع وأفضـل وأسـمى أسلـوب حـواري. قـال تعـالى: "ادع إلى سبيـل ربك بالحكمـة والموعظـة الحسنـة وجادلهـم بالتي هي أحسـن". وقـال كذلك: "ولو كنت فظـا غليـظ القلـب لانفضـوا من حـولك". وفي آية أخـرى: "وعبـاد الرحمن الذين يمشـون على الأرض هـونا وإذا خاطبهـم الجاهلـون قالـوا سـلاما". صدق اللـه العظيـم.
فكـل هـذه الآيـات تحـث على الرحمـة والحكمـة وليـن الجـانب وحسـن المعاملـة والتواضع والتسـامح في مجـال الحـوار والجـدال والتواصـل مع النـاس ومخاطبتهـم.
وفي اعتقـادي أن هنـاك بعـض القواعـد والسلوكـات التي يستحـب أن ننهجهـا في حواراتنـا المختلفـة. ولعـل أهمهـا التواضـع، هـذه الخصلـة الجوهريـة التي هي من صفـات الراسخيـن في العلـم، هـؤلاء الذين، رغـم علمهـم أو بسببـه، يوقنـون أنهـم إنمـا لم يـؤتـوا من العلـم إلا قليـلا، وأنهـم يجهلـون من الأشيـاء أكثـر ممـا يدركـون. فـإذا تواضـع الإنسـان صـار متأكـدا بـأن كلامـه إنمـا هو قـابل للصـواب أو الخطأ، لأن الكمـال للخـالق وحـده. ولذلك فـإنه يسلـم بيسـر بـأنه لا يملـك الحقيقـة المطلقـة، لأن معارف الإنسـان إنمـا هي محـدودة ونسبيـة وقابلـة للتغيـر والتطـور والتقـدم. وخاصيـة العلـوم الكبرى هي الصيـرورة المستمـرة والتراكـم المتزايـد نتيجـة لتطـور البحـوث ولتضـافر جهـود العقـول البشريـة عبـر التاريـخ. وإذن، فكـل شيء في هـذه الدنيـا إنمـا هو جـزئي ونسـبي وقـابل للتبـدل والتحـول والنسـخ والتـرقي.
وهنـاك قـاعدة أخـرى للحـوار، وتكمـن في الاعتـراف بقيمـة الآخـر كمتحـاور كفء، وكإنسـان له طاقـات وقـدرات ومؤهـلات ذهنيـة ومعرفيـة لا يجـب الاستهانـة بهـا. ولهـذا وجـب الاحتـرام المتبـادل بين المتحـاورين، ومحاولـة الفهـم العميـق للأمـور، والاقتـراب مـا أمكـن من واقـع الأشيـاء والمسائـل المـراد سبـر غورهـا.
وهنـاك خـلل آخـر في آداب الحـوار يتجـلى في الميـل الشـائع إلى تشخيـص أو شخصنـة المشاكـل والخلافـات أو الاختلافـات. فنحـن كثيـرا مـا نحيـد عن جـادة الحـوار السليمـة، ألا وهي مناقشـة الأمـور والأفكـار، فنتطـرق إلى الأشخـاص بغيـة تجريحهـم والنيـل من كرامتهـم والتعـرض إلى ذواتهـم. وبذلـك طبعـا ننـأى عن المقصـود من النقـاش وندخـل في حيـز البغضـاء والعـداوة والسبـاب، ولا نصـل إلى أيـة فائـدة ولا نحصـل على أي فهـم صحيـح للأشيـاء. والحـالة أن الهـدف من أي حـوار أو جـدال إنمـا هـو بالدرجـة الأولى الفهـم أو التفـاهم حـول المواضيـع المطروقـة، وليس البحـث عن التفـوق والانتصـار على خصـم مزعـوم، لأننـا لسنـا في حـرب، بل بالعكـس، هـذا مجـال للتحـالف والتـآلف والتكـامل. إذ أن العقـل البشـري، كائنـا مـا كـان مستـواه، يتسـم بالقصـور والعجـز. ولا سبيـل إلى تعـويض ذلك إلا بالاستعانـة بعقـول غيـره التي يمكنهـا أن تسعفـه وتعضـده، خـاصة مع تشعـب العـلوم والمدارك وتفرعهـا وتعقـدهـا.
ولعلـه أمـام هـذه الحـالة، فـإن أي تعصـب أو تصلـب أو تمسـك بالـرأي وتشبـث بالقناعـات الشخصيـة وكـأنها وحي يـوحى، يخـشى أن يكـون مـرد ذلك إلى حـب مفـرط للـذات أو عـدم تقبـل لأفكـار الغيـر أو انغـلاق سببـه جهـل عميـق ومـركب وعـزوف عن قـابليـة التسليـم بإمكـانية الخـطأ وإعـراض عن محاسبـة النفـس وإصـلاح كل نقـص أو غـلو أو عـوج.
وفي كثير من الأحيـان، قـد يكـون من المستحسـن أن نستعمـل الأسلـوب غيـر المباشـر في التوجـه إلى المخـاطب، وذلك تفاديـا لأي سـوء تفـاهم يمكـن أن ينشـأ من الخطـاب المباشـر، وفي كـل الأحـوال، يجـدر بالمـرء أن يلـجـأ إلى المرونـة والتسامـح والتعبيـر برفـق مع إيـراد الحـجج والبراهيـن، دون تشـدد أو تعصـب، أو إلقـاء نعـوت مهينـة، من قبيـل "يا جـاهل"، أو "يا مغفـل"، أو "يا منافـق"، الخ... ولا بد من سـعي دائـب نحـو تقـريب وجهـات النظـر، وتقليـص الهـوة والتركيـز على نقـط الاتفـاق والالتقـاء. إذ ليس المطلـوب هـو أن يكـون النـاس على تصـور واحـد ومتطابـق تمامـا للأشيـاء ، فذلك من المستحيـلات.
ولا شـك أن الوصـول إلى هـذا النـوع من الحـوار، بضوابطـه وأخلاقياتـه وآدابـه، من تواضـع واحتـرام وحكمـة ولباقـة وتحكيم للعقـل، كل ذلك يتطلـب مجاهـدة للنفـس وترويضـا للـذات التي اعتـادت على سلـوك سبـل أخـرى منافيـة لهـذا النهـج. غير أن الاستمرارية في محـاولة ممـارسة هذا الأسلـوب والتمريـن عليـه في مختلـف المناسبـات التي تعـرض للإنسـان يوميـا، كـل ذلـك قـد يكـون كفيـلا بـأن يحسـن من أداء المـرء وأن يعـود على الجميـع بـأحسـن النتائـج وأرقى المنـافـع.