لا شـك أن الكتابـة تعتبـر من أكثـر الأمـور خطـورة وتعقيـدا، وذلك على الرغـم ممـا يبـدو من بساطتهـا الظاهريـة. ولعـل من أهـم مـا يكسبهـا هـذا الطابـع، كونهـا لا تخضـع عـادة لعمليـة المحـو والاندثـار. فمـا إن ينشـر الإنسـان إنتاجـه حتى يفلـت من يديـه ويصبـح نهائيـا ودائـم المفعـول، ولا سبيـل حينئـذ إلى إنـكاره أو التبـرِؤ منه أو حذفـه. ثم إن الكتابـة تمثـل، دائمـا، عنوانـا عن صاحبهـا وترجمانـا لذاتـه وخطابـا ناطقـا بمـا يـروج بخـلده وفي أعماقـه ووجدانـه. ومهمـا كلف المـرء نفسـه وجشم عقلـه في محاولـة إخفـاء مـا يخـامر داخله ويتفاعـل في ذهنـه، فإنـه كثيـرا ما لا يفلح في ذلك إلا جزئيـا. فلاشعـوره وكنـه شخصيتـه كل ذلك لا بـد أن يطفـو على السطـح ويعبـر عنـه صاحبـه. والأمـر لا يتعلق بأسلـوب الكتابـة فحسب، بل أيضـا محتواهـا العميـق ودلالاتهـا البعيـدة. وبنـاء على كل مـا سبـق، يتجلى للعيـان مدى ضرورة أن يتحلى المـرء، حين يكتب، بقـدر وافـر من المسؤوليـة. فهي أول سمـة يتعين أن تكتسيهـا النصـوص والإبداعـات. وإلا فسنكـون بإزاء كتابـة عبثيـة ولامسؤولـة بحيث لا تصمـد طويـلا لمحـك النقـد والتحليل والتمحيص. بيـد أن التحلي بروح المسؤوليـة وحـده لا يكفي، بل لربمـا كان ذلك من المعوقـات والمثبطـات في سبيـل الانطـلاق بالخلق والإبداع إلى عوالـم وآفـاق رحبـة وساميـة. وهنـا تبـرز ميـزة للكتابـة قد تكـون، بدرجـات متفاوتـة، ملازمـة لهـا، وهي الجـرأة. ولا يخفى مـا لهـذه الخاصيـة من أهميـة قصـوى في عمليـة الإنتـاج الفكـري والإبداعي بصفـة عامـة. إذ أن هنـاك عوامـل كثيـرة تحـد من القـدرة على التعبيـر الطليق عن كل مـا يفكـر فيـه الإنسـان. وقد نذكـر من بينهـا العادات والتقاليـد والأعـراف والضغوطـات، الخفيـة منهـا والبينـة، سواء أكـانت عائليـة أواجتماعيـة أوثقافيـة أوغيرهـا. وفي ظـل ذلك، لامحيـد لمن يخـوض غمـار الكتابـة أن يخـطو خطـوات جريئـة إلى الأمـام، وأن يحـاول جاهـدا أن يوسـع من نطـاق مـا يتـاح له من حريـة ومن هـامش للتصـرف. وهنـا تبـدو ضـرورة خلق منـاخ صـاف وملائـم للحريـة بكل أبعادهـا. إذ بـدون ذلك لا مجـال لتوقـع الحصـول على انتشـار لعمليـة الإنتـاج والخلـق. وخلافـا للاعتقـاد السائـد، فإن العامـل السيـاسي لا يشكـل هنـا سـوى طـرف من الإشكاليـة. بل لربمـا كانت العناصـر الأخـرى أقوى مفعـولا وأشـد تنغيصـا أمـام فعـل الكتابـة. ولعل العوامـل النفسيـة والذاتيـة أن تكـون، في جـل الأحيـان، أكبـر تأثيـرا على الإنسـان من الأسبـاب الموضوعيـة والخارجيـة. ذلك بأن الكاتـب يجـد نفسـه، عن وعي أو بدون شعـور، مضطـرا إلى تحـاشي التطـرق إلى عـدة مواضيـع، ممـا قد يقلـص من إمكانيـاته على البـذل والمساهمـة والابتكـار. فالعمليـة إذن تظهـر في الواقـع أكثـر حـدة ووقعـا ممـا قد يتصوره الإنسـان الذي يقبـل على الكتابـة وهـو يتفـادى الحواجـز والعقبـات، ويجهـد نفسـه وطاقاتـه في محاولـة مصانعـة أو ممـالأة أو ترضيـة فئـات مختلفـة من النـاس. وهكـذا قد يستـدعي الأمـر تضافـر جهـود الجميـع، بما في ذلك جمـع الكتـاب وجمهـور القـراء، من أجـل توفيـر المنـاخ المناسـب قصـد ازدهـار فعـل الإنتـاج الفكـري والإشعـاع الثقـافي والإبداع الفني والأدبي. ولا يستقيـم ذلك إلا في إطـار جـو من الحريـة والتسـامح وتقبـل آراء الغيـر مهمـا كـان الاختـلاف، لأننـا حيـن نرغـب في أن نفـرض على النـاس نوعـا من المواضيـع وصنفـا من الكتابـة ونمطـا من التفكيـر، فأننـا بذلك نكـون قد وضعنـا لهـم أغلالا وأصفـادا تحظـر عليهـم الفكـر الحـر وتمنعهـم من الانطـلاق والتفتـح في الآفـاق الرحبـة للخلـق المتنـوع والإبـداع الجميـل والإنتـاج الغزيـر. وفي هـذا الصـدد، فإنـه ينبـغي أن لا يحـد من خيـال وفكـر المبـدع إلا مـا يدخـل في بـاب المقـدسات التي يجـب عـدم المـس بـها أو انتهـاك حرمتـها. ___
|